عكا مدينته وسر وجوده، ليست وهماً يبحث عنه في الأحلام ، هي مدينته المتأصلة في كيانه الكلي. هي في الموقع الذي يتغذى منه عبر الحبل السري الذي يصله بمكمن وجوده. مدينته، شعلة مهجته، ومحطته الأولى والأخيرة. لوكان عصاب حنين فقط، لو كانت رغبة شاردة، لو كانت محطة إلهام بريئة، لذبلت كلها، أو لعصف بها موج وأتلفها. إنه كفر بالغياب.إنه نهمه المتشبث بالمكان، حق لا يبرأ. تمرد نزق على تسرب خيوط حلمه الأول. وربما حلمه الأخير. لماذا هذا الإلحاح؟ بل لماذا تلك الصحوة؟ سأتحدث هنا بشكل خاص عن ثمانية من أعمال توفيق التي جائت على شكل ومضات متتابعة عام 1966 وهي ( خريف البحر، أحلام صياد، الجاروفة، مواويل فلسطينية، همسات شتائية، رؤى عاشقة، مدينة الأحلام و شاطىء الأمان). وقتها طغى الوجد الروحي والفني بكثافة كما ليس من قبل وكما ليس من بعد. تسارعت هيمنة الوصل الصوفي بينه وبين مدينته. ريشته الملهمة أعلنت طغيانها وتمردها الحر الذي أوصلها إلى رحم تيارات فنية رائدة ومعاصرة. حيرتي تلك قلتها لتوفيق مراراً في لقاءاتنا في أواخر السبعينات في بيروت. بضعة أعمال فقط بقيت من تلك الفترة لتبقي شهادة حية تصل توفيق ربما برائد آخر في الفن التشكيلي الفلسطيني وهو الفنان والروائي جبرا ابراهيم جبرا. هذا رغم فوارق تقنية وفنية كثيرة تميز عمل الواحد عن الآخر، ولكن اللحمة الواصلة بينهما باقية. كلاهما فنان بالفطرة. ومع ذلك تتماهى أعمالهما بجدارة مع لغة زمنها الفني العالمي. التوقف عند تلك الأعمال الباقية والتي لا تتجاوز السبعة أعمال، ضروري وهام جداً لرسم صورة الإبداع الفلسطيني في مراحله المتعاقبة. أول ما يلفت الانتباه في تلك الأعمال هو زخم نسيجها التشكيلي وكثافة عناصرها المتآلفة. لقد كان ذلك السبب الأساسي الذي دفعني إلى طباعة تفصيلات من هذه الأعمال، لأبين ما أتحدث عنه من زخم وكثافة. يرى المتفرج في تلك التفاصيل أعمالاً تجريدية محكمة التكوين وغنية في عناصرها التشكيلية وفي ألوانها، وكأنها ولدت كما يراها المتفرج. فقط هذا النوع من الأعمال يمكننا من تأطير بعض التفاصيل القابلة للإنفصال عن اللوحة الأم لتشكل عملاً فنياً قائماً بذاته. ذلك الزخم والغنى قلما تعرفه أعمال توفيق الأخرى وأعمال كثير من الفنانين. لا أعني بذلك بأن كل عمل فني هام يجب أن تتوفر به تلك الصفات، ولكن توفرها له دلالات تشكيلية هامة. تورط كثير من الفنانون الفلسطينيون الذين أنتجوا أعمالهم بعد نكبة عام 1948 بإعطاء الأولوية في أعمالهم الفنية لواقع التشرد ولإظهار أشكال المعاناة الفلسطينية، مما أبعد ذلك النوع من الأعمال عن التفاعل فنياً مع زمنها الذي أنتجت به. لم يبتعد توفيق في أعماله الموقعة عام 1966 عن الموضوع الفلسطيني ولكنه تناوله من موقع ارتباطه الشخصي بما يتململ في روحه وفي كيانه، تناوله من تجربته المريرة في الإبعاد وفي الإقصاء القسري الدائم، وتناوله كذلك من جرحه النازف الذي لا يبرأ. ليس هذا فقط، بل أنه انهمك وغاص في لجة فن أهل عصره أينما كانوا. تزامن اقترابه من التجارب الفنية المعاصرة مع رغبته الجامحة في تسطير حلمه الأثير عن مدينته وكنه شغفه، عكا. تلك الجرأة النادرة هي التي جعلت من تلك الأعمال فصلاً تاريخياً في الابداع الفلسطيني المنتمي إلى عصره. لم يكن بالامكان إدخال هذه الأعمال إلى فلسطين لعرضها ثم إعادتها إلى لبنان كما يجري بين بلدين في أي مكان آخر في العالم. هذا كان سبب ترددي بقبول الخوض في إقامة المعرض ثانية في فلسطين، بعد المعرض الأول الذي أقيم عام 2018 في دار النمر في بيروت. رغبة رلى دغمان الشديدة في استضافة المعرض في فلسطين ولها الفضل الأول في ذلك، التقت مع رغبة طارق عبدالعال ابن توفيق ورغبتي أيضاً، وهذا ما طرح مشاكل وأسألة حول ايجاد السبل الممكنة لإقامة المعرض، وجعلتنا نبحث عن حلول تمكننا مما نصبوا إليه. كنت قد قمت بطباعة تفاصيل بعض الأعمال بدقة عالية في المعرض الأول، وهو ما جعلتني أفكر بخوض تجربة المعرض بطريقة تفي بكل الأغراض المطلوبة. وهي أولاً العودة بتوفيق عبد العال إلى وطنه وثم إتاحة الفرصة لجمهور الفن في فلسطين للإطلاع على تجربة فنان رائد لم تنتشر أعماله كما تستحق. متحف جامعة بير زيت برئيسه والعاملين فيه قبلوا المشاركة في مشقة إقامة هذا المعرض بسبب ما يحمل من معان وما يشكل من حلقة هامة في تاريخ الحركة الفنية التشكيلية الفلسطينية.
ترانيم البقاء
آذار 2, 2020 - كانون الثاني 30, 2021 -
12:30 - 11:15
القيمون:
ناصر السومي
المكان:
متحف جامعة بيرزيت.