يأتي معرض "داخل الإطار/ خارج الإطار" ضمن الرؤية الرئيسية لمتحف جامعة بيرزيت الساعية إلى بناء نسق تفاعلي وحواري خلاق بحيث تشكل مفاهيم الفنون المعاصرة بجميع مستوياتها اللّبنة الأساسية للتبادل المعرفي. فالبيئة الأكاديمية الخاصة التي تتمتع بها جامعة بيرزيت تفتح المجال أمام الممارسة الثقافية التي ترتقي بالتغيير في المجتمع نحو ما هو أسمى دائما. من هنا، فإن معرض "داخل الإطار/ خارج الإطار" يقدم تجارب فنية معاصرة من خلال تسليط الضوء على أحد الجوانب المتخصصة في الإنتاج الفني المعاصر تحديدا ذلك الذي يتناول تمثيل المرأة الفلسطينية وتغيُّر المفاهيم حول هذا التمثيل عبر عدد من الأعمال الفنية التي أنتجت في العقود الثلاثة الماضية أي في الفترة الممتدة منذ السبعينيات وحتى اليوم. يُترَكُ المجالُ للنّاظرِ في هذا المعرض ليجول خارج وداخل طيات التمثيلات المتبدلة لجسد المرأة أنتجها فنانون وفنانات من أجيال وتجارب فنية متنوعة حيث تجمع الأعمال بين تصويرات المرأة وحضورها البصري في العمل الفني الفلسطيني الذي لطالما ارتبط بالظروف السياسية والإجتماعية التي مر بها الفلسطينيون من جهة، وبسعي الفنان والفنانة لتحدّ الأنماط الفنية التي فرضت على شكل ومضمون الأعمال، وعلاقتهم بالممارسة الفنية المعاصرة من جهة أخرى.
يقدم المعرض بانوراما سريعة ونقدية لتمثيل المرأة في السبعينيات حيث ارتبطت صورة المرأة بقيم النّضال والثورة فشكل تصويرها عند الفنانين المؤسسين صُلب الهم الجمعي والقضايا الوطنية. في جميع الأعمال المشاركة في المعرض. يحضر تمثيل المرأة بالصورة التي تفرض نفسها والمحورية كما وصفته ريما حمامي، هو حضور قيّمته تينا شيرويل-المالحي بصفته المؤشر الرسمي على الهوية الفلسطينية. يبرز المعرض مواطن التغيير الطفيف الذي طرأ على هذا التوجه في الثمانينيات بفعل مساهمات الفنانات الفلسطينيات اللواتي قدّمن المرأة بصورة مغايرة للتمثيل التقليدي فوضعن صورة المرأة الأم والوطن في دائرة التساؤل وسلّطن الضوء على اشتباك المرأة مع التأثيرات السياسية والاجتماعية المتعددة والتوتر بين المرأة وقولبتها في ذلك سياق. ففي الثمانينيات تم استدخال موضوعات أخرى ذات ارتباط بالمشهد العالمي لتمثيل المرأة، فارتبط حضورها بطرائق متنوعة للتمثيل تتخطى الرمزية التقليدية وتأخذ من حضور الجسد والألم والفقدان محوراً دراماتيكياً، فكان لحضور جسد المرأة على سبيل المثال موقفاً فعلياً له دور في الساحة السياسية.
التساؤلات التي يطرحها المعرض كما عبرت عنها ريما حمامي تتمحور حول سبب توظيف صورة المرأة في هذه الأعمال. فما الذي استخدم من أجل تمثيلها، وكيف تم إظهارها للمشاهد؟ كيف نستقبل، كمشاهدين، هذه الصورة، وكيف نفسرها؟ كيف أن هذه الصورة هي، تحديدا، صورة امرأة فلسطينية؟ وماذا تقول هذه الصور عن عصرنا المتغير، أو عن وجهات النظر حول المرأة الفلسطينية، أو عن فكرة فلسطين نفسها؟ وهل يتعامل الفنانون: ذكورا وإناثا، مع المرأة باعتبارها موضوعاً (أو غاية) بالطرق نفسها، أو بطرق مختلفة؟ وأخيرا يستهل "داخل الإطار/ خارج الإطار" نقاشا بين الحاضر والماضي، بين التصوير الأيقوني مقابل المعاصر.
في إطار البطولة
اعتبرت فترة السبعينيات، من القرن الماضي، مرحلة هامة من مراحل الإنتاج البصري، خاصة في صياغة نمط أيقوني واضح لتمثيل المرأة الفلسطينية بثوبها التقليدي، والذي ربطها بالنضال والثورة، لتصبح المرأة رمزاً للأرض والعطاء والهوية كما هو جليٌّ في هذا المعرض في عملين لسليمان منصور "صحوة القرية، "فلسطين، ١٩٧٨". هذا الأسلوب وضع المرأة، بوقفتها المنتصبة والنظرة البعيدة، في موقع "نصبي وتذكاري" داخل مساحات اللوحة، ليصبحَ هذا التمثيلُ شكلاً فنياً متداولاَ على المستوى العام. برزت هذه الصورة الرمزية "المُؤطرة" للمرأة الفلسطينية، في الغالب، في أعمال فنانين ذكور ليس فقط الفلسطينيون منهم، وإنما فنانون عرب آخرون ممن انضموا للثورة منذ تأسيسها في الستينيات مثل برهان كركوتلي الذي نقدّم أحد أعماله. يصبحَ هذا التمثيلُ للمرأة حاضراً بقوة في الثقافة الشعبية الفلسطينية والعربية، خاصة بتأثير من ملصقات منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تعيد طباعةَ العديد من الأعمال الفنية، وتستخدمها في التعبئة الشعبية، ليصبحَ لتلك الصورة انتشارٌ وحضور أكيديْن في الثقافة الجمعية للمجتمعات الفلسطينية، كما في "فاطمة"، إحدى شخصيات كاريكاتور ناجي العلي، وغالبية النساء المتمثلات في أعمال كامل المغني "بدون عنوان". استمرت هذه الصياغة كوسيلة للتعبئة السياسية والوطنية لفترة طويلة، بقيت إلى حد ما حتى اليوم. ففي عمل معاصر لنبيل عناني "فتاتان من بيت لحم، ٢٠١١"، نجد أنّه ما يزال يحتفظ ببعض الدلالات الرمزية، التي رسختها فترة السبعينيات، للإشارة إلى المرأة - الوطن أو الأرض. ومن السهل، أيضاً، ملاحظة أن إنتاجات هذه المرحلة اقتصرت على تقنية الرسم والتصوير الزيتي والطباعة، معتمدةً أساساً خطاباً تعبوياً مباشراً بأسلوب تعبيري، تداخلت فيه تأثيراتُ المدارس الفنية العالمية، كالمدرسة التأثيرية السوفييتية والحركة التحرّرية المحرضة التي تجلّت في الجداريات المؤثرة للفنان ديغو ريفيرا المكسيكي.
خارج هذا الإطار
منذ ثمانينيات القرن الماضي، أخد هذا الإطار، الذي كان أساسا في تشكيل الصور النمطية للمرأة، في الانحسار أمام واجهة حيوية ومتنوعة لممارسة فنية معاصرة من قبل أجيال جديدة من الفنانين التقت ممارساتهم مع الممارسات العالمية الرائجة. فمع تطور الحركة الفنية الفلسطينية وحضورها كجزء من الممارسة الفنية العالمية، ومع اختلاف الواقع السياسي والثقافي للمجتمعات الفلسطينية، أينما وُجدت، اختلفت معها صورةُ المرأة، مبتعدةً عن الرمزية المعهودة التي ربطتها سابقاً بالأرض والنضال، منطلقةً إلى طرق أخرى متنوعة لتمثيل المرأة.
في التمثيل السياسي
في "طاولة المفاوضات،١٩٨٣" ، تعرض منى حاطوم موقفاً سياسياً وأخلاقياً جريئاً تجاه ما يحدث، ليس في فلسطين فحسب، وإنما في العالم أجمع. بحيث يأخذ جسدُها موقعاً فعلياً داخل العمل كتعليق ساخر من المفاوضات السياسية حول الحرب في لبنان. وفي عملها "على جثتي، ٢٠٠٥" تضع من صورتها الشخصية خط مواجهة وتحدٍ للجندي في محاكاة للقول الشائع والذي يدلل على التحدي في أقوى أشكاله، وتتلاعب بالحجم الذي يدلل على علاقات القوة.
أما في عمل ماري توما" بيوت من لا جسد لهم، ٢٠٠٠"، فتستخدم الفنانة أُسلوب التركيب في الفراغ، والذي يتجلّى من خلال مجموعة من الأثواب العملاقة والخاوية المركّبة في الفراغ. هذه الأثواب، وإن كانت مختلفةُ شكلياً عن التمثيل التقليدي السابق للمرأة في الأعمال الزيتية أو المطبوعة، إلا أنها تقدّم موضوعاً خالصاً عن الشتات والوطن للتدليل على تفريغ ونفي الفلسطينيين من أرضهم. هذا مثال حول استمرارية معينة لقضايا النضال والوطن، وإن اختلفت اللغة الفنية.
أما عمل نبيل عناني، "فتاتان من بيت لحم، ٢٠١١"، فنجد أنه ما يزال يحتفظ ببعض الدلالات الرمزية التي رسختها فترة السبعينيات. فالمرأة مازالت في ثوبها التقليدي. اتخذت أحلام شبلي في عملها "فطومة، ٢٠٠٠"، وعمل "حلم، ٢٠٠٠"، التصوير الفوتوغرافي وسيطاً فنياً لتقديم صورة للمرأة البدوية، التي يتم نكرانُ وجودها من قبل الاحتلال الإسرائيلي، مع نكرانه أصلاً لوجود قبيلتها، للتدليل على تفريغ ونفي الفلسطينيين. يحتوي هذا التمثيل على مضامين سياسية وفعل مواجهة للسياسات الإسرائيلية. يعيد عامر شوملي إنتاج صورة المناضلة ليلى خالد - وهي صورةٌ أنتجتها منظمة التحرير الفلسطينية، في السبعينيات، كصورة نموذجية للمرأة الفلسطينية، تم "تصنيعها"، وقتئذٍ، لتتماشى مع صورة الفلسطيني المناضل، يعيد شوملي إنتاج ذات الصورة، وفي سياق نقدي للمعنى في عمله "الأيقونة، ٢٠١١" الذي استخدم في إنتاجه ٣٥٠٠ قلم أحمر شفاه.
إشارات الفقدان والأمل
حملت بعض الأعمال التي يقدمها المعرض صورة مغايرة لتمثيل المرأة ابتعدت فيها عن الرمزية السابقة، كما حضر فيها الألم والفقدان بشكل واضح. ففي "صورة ذاتية ١٩٧٨"، وهو موضوع شائع بين الفنانين، اختارت الفنانة سميرة بدران أن تحيك حول خطوط الوجه طبقات من الأسلاك والحديد، واختارت جسداً أنثوياً ممزّقاً في عملها الثاني "هروب، ١٩٧٨"وتقدّم ليلى الشوا في عملها "صرخة، ٢٠١١"، طباعة متكررة لصرخة امرأة، لا يُعرف إن كان سببُها صرخة في مواجهة الاحتلال، أو ضد تعدد أسباب الاستغلال للمرأة في المجتمع. وهي صرخةٌ تظهرها الفنانة الشوا، مرة أخرى، في عملها الثاني في المعرض "2011 leashed/unleashed " لتتناول جدلاً حول البطلة والضحية. تمثّل فيرا تماري في عملها "الحزن الصامت، ٢٠٠٢"، المرأة الفلسطينية بصورة قاتمة لنساء ينتحبن بسبب الفقدان المكثف في حياتهن. صور استوحتها الفنانة من آلاف الصور الحزينة التي كانت تطل يومياً في الصحف والتلفاز منذ الانتفاضة الثانية، عام ٢٠٠٠، في مشاهدَ مأساوية لفقدان الأمهات أبناءهن، فأصبحن، بالتالي، ضحايا هذا الفقدان. كما عنونت الفنانة الشابة الراحلة ليان شوابكة معرضها الأخير بـ"فقد" والذي يقدم منه أحد أعمالها بعنوان"استغراق، ٢٠٠٩" جاءت أعمال شوابكة، مليئة بمرارة فقدها الشخصي لحياتها الذي كانت تتوقعه بسبب المرض، وهو ما يظهر جليا في أجساد النساء المنهكات. تقدّم جومانا عبود في عمل الفيديو " أكتم أنفاسي، ٢٠٠٦" سؤالاً ذا بعد فلسفي حول الإحساس بالاختناق داخل وعاء ماء، تغمر رأسها فيه اختيارياً، ومن ثم تحاول التنفّس تجنباً للاختناق. رغم حضور هذه التمثيلات المقلقة للمرأة، والتي تظهرها ضعيفة أحياناً، ومهددة أو مفقودة أحياناً أخرى، إلا أنه، وفي أعمالٍ أخرى، ما زالت المرأة تحمل طاقة الاستمرار رغم كل ما يحدث، وهذا ما يوحي به عمل رائدة سعادة "بينالوبي، ٢٠١١"، الذي أنتجته خصيصاً لهذا المعرض.
أين الجسد؟
لم تتغير علاقة كثير من الفنانين المؤسسين بصورة جسد المرأة التي كانت مرتبطة مسبقاً بهموم الجماعة والقضايا الوطنية، ولم تأخذ شكل الشخصي، أو الفردي، أو الجمالي عند التعامل معه. وإذا فحصنا الدلالات الجمالية لتوظيف جسد المرأة، آنذاك، فإننا نجدها عند معظم الفنانين محصورةً ومغلّفة تماماً بفيض من الزخارف وألوان الثوب التقليدي، إلى أن استطاعت الفنانات تقديم صور مغايرة لجسد المرأة وحضورها المتعدد الأشكال والذي ارتبط بتغيرات سياسية واجتماعية متعددة أظهرت الأعمال المعروضة جانباً منها. وأحياناً أظهرت علاقات غير مريحة مع المجتمع. يقدم عمل إيناس ياسين "مرآة، ٢٠٠٤" مثالاً على المساءلة والإشكالية في السياسات العامة وانعكاسها على الجسد الخاص. بينما تعرض رولا حلواني صورة فوتوغرافية "بدون عنوان، ٢٠٠٤"، تعكس مشهداً مألوفا لعروسين على منصة حفل الزفاف وامرأتين من جيل الأمهات ترقصان، ما يجعل المشهد، بتفاصيله الصغيرة المليئة بالأحمر القاني وموقع كل شخص في الصورة، موضوعاً مثيرا للكثير من الأسئلة حول شكل العمل ومضمونه. وسواء أكان بالعرض أو الأداء الحي، فإن رائدة سعادة توظف جسدها الحي كمادة نحو انعتاق روحاني من خلال عملها " شجرة الأمنيات، ٢٠١١" ، وذلك بإشراك الجمهور المشاهد في العمل، ليمارس فعل التمني كفعل تحرري.فيما برز دور الفنانات بإعادة صياغة تمثيل المرأة بطرح الأسئلة حول الواقع والمعاش، جاءت تمثيلات جسد المرأة في أعمال الفنانين الشباب، ومنهم: أيمن عيسى في عمله "دلالة، ٢٠٠٧"، وهاني زعرب في "استحلام، ٢٠٠٦"، من منظور شخصي أقل إشكالية وأكثر ارتباطاً بالعلاقة مع الرسم كشكل فني.
قيم المعرض فنياً: فيرا تماري وإيناس ياسين
المكان: تم إنتاج النسخة الأولى من المعرض في متحف جامعة بيرزيت ، القاعة الرئيسية ، بينما إنتجت النسخة الثانية في السنة التالية في قاعة عرض كلية الفنون الجملية في جامعة النجاح.