يقدم متحف جامعة بيرزيت بالشراكة مع حوش الفن الفلسطيني معرض الفنان بشير مخول "ارتحال". يتوج العمل تضافر الجهود المؤسساتية التي مكنت المؤسستين من عرض المزيد من أعمال هذا الفنان المميز للجمهور الفلسطيني، وإتاحة الفرصة أمام الجمهور لمعايشة أعمال مخول في عدة مواقع جغرافية في القدس، بير زيت، ورام الله وما حولها، آخذين بعين الاعتبار القيود المفروضة على حركة معظم الفلسطينيين، إضافة إلى دمج برنامج تثقيفي ومعرفي، وتوفير المعرفة ونشرها، وتقديم حيّز للجدل والنقاش.
يشكل الحديث عن أعمال الفنان بشير مخول تحدياً كبيراً من ناحية اختيار المفردات، لأن استخدام بعض التعريفات يفتقر إلى الدقّة في معظم الأحيان. إن تناول تقديم فنان فلسطيني مغترب أو مهاجر، يحتاج دوماً إلى تفسير خصوصية الدلالات في سياق تجربته. وهو ما يستحضر مخول وصفه في مقابلة له مع الباحث "غوردون هون" حول مفهوم العودة وعلاقة الخامة الفنية "العدسة المزدوجة" المستخدمة في تصوير مشاهد العودة، وخصوصًا حين تتركنا هذه المادة مع صور متغيرة باستمرار، وعوضاً عن تشكيل صورة كاملة للمشهد أو منحنا إحساسًا "وهمياً" بالعمق، فإن كل ما تقدمه لنا في الواقع كمتلقين هو الإرباك! تجربة تحاكي المحاولات المتكررة لتعريف الهوية، والتي تحاول توضيح المفهوم فتتركنا في حيرة.
يمتاز توجه بشير مخول بالسيرورة الموجّهة، ويتضمن مساءلة مستمرة للعلاقات الداخلية للاحتلال، الحيز والتصوّر/الادراك. خلال التنقل بين مواقع المعرض، يتعرف المشاهد على تأويلات وتأملات الفنان العميقة حول الرموز والعلاقات المتبادلة بين الرأسمالية، الحيز والهوية. عمله مكرّس ليرصد بعمق آثار الواقع الفلسطيني والهيمنة الاسرائيلية على الهوية الفلسطينية، وفي الوقت نفسه، يطرح معالجة الوشائج المتشابكة بين عالم الاقتصاد، السياسة وحياتنا اليومية. ان هذه العلاقات وحيثياتها هو ما يتناوله الفنان ببراعة وبأسلوب قوي من خلال أعماله المعروضة في هذا المعرض الفردي.
تتجلى في الأعمال المعروضة عدة مواجهات تطرح القضايا الشائكة والمتعلقة بالاستعمار والهوية ضمن أطر أكاديمية وفكرية غربية، متقاطعة مع تجربة الفنان الشخصية ليقدم تصورًا عن كيفية صياغة مفاهيم الهوية وجدلاً حول الأصول وإنشاء الرموز الوطنية الدالة عليها. يوفر هذا المعرض لنا "منصة" يشتبك عليها نقاش الهويات، التاريخ والتراث مع أدوات التفكير والانتاج الفني المعاصر. كذلك، يقدم المعرض فرصة غنية للاطلاع على حرفية وأدوات الإنتاج الفني الخاص بالمعرض، ما يقود إلى أسئلة أخرى تتعلق بالإنتاج الفني المعاصر وتعريفات حول ماهيته وارتباطها بصناعة الفن عمومًا.
توفر الأعمال التي تؤلف المعرض مدارك هامة يتناولها مخول وترتبط بالتزام الحوش بعرض وفحص العلاقات التبادلية بين الحيز العام، القوة والهوية. فمسألتا القوة والحيز محملتان بتداعياتهما الخاصة على الفلسطينيين عمومًا، وفي القدس خصوصًا. فتراكم ممارسات الهيمنة والقمع تتجلى ليس من خلال جهاز القضاء الإسرائيلي فحسب، بل من خلال تهويد المدينة بواسطة التخطيط الحضَري، والاستحواذ على الرموز المادية أيضاً.
يحاول مشروع الحوش طرح هذه القضية الخلافية والمعقدة، من خلال النظر في آثارها على القدس. المشروع خرج من إطار العرض الداخلي إلى الخارج الاوسع، نحو فضاءات عامة في البلدة القديمة بالقدس وفي محيط شارع الزهراء بغرض إحياء المدينة بأساليب فنية مختلفة، ليستهدف متنزهاُ صغيراً معروفاً باسم "حديقة روكفلر" واسمه الأصلي "الكرم الخليلي". المشروع يهدف إلى استعادة الشعور العام بملكية المتنزه ومواجهة التصورات العامة عنه من خلال إحيائه وتفعيله بالنشاط الفني.
إن تطور الحيّز وتطبيق تقسيماته إلى حيز حضري وآخر ريفي، يشكل انعكاساً للسياسات الإسرائيلية، ويعطي فكرة عن مستقبل الهيمنة الاسرائيلية والاحتلال الإسرائيلي. الذاكرة والحيز جزءان لا يتجزءان من الوعي والتاريخ والهوية، وقد وضع الحوش أمامه دومًا هدف معالجة قضية التاريخ البصري وعلاقتها بالهوية الفلسطينية. لقد عرّف الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذاكرة-المضادة على أنها مقاومة الأفراد ضد الصيغ الرسمية للاستمرارية التاريخية: يصبح الأمر المهم هو مَن الذي يتذكر، ما هو سياق الذاكرة، وما الذي تعارضه. إن هذا المعرض الفردي لبشير مخول يؤكد على اهتمام ورغبة الحوش في تشييد ذاكرات-مضادة بصرية ومن جهودنا لطرح منظور جديد لتاريخ الهوية، حيزها وسيكولوجيتها في مجتمع متشظّ، تفتته آثار ونتائج السياسات والقمع.
كذلك فإن تقديم أعمال مخول في فلسطين وفي جامعة بير زيت، يضيف بعدًا هامًا للأعمال التي جابت العالم في مناسبات فنية عالمية، إلا أنه لم يتـَح لها الفرصة لتكون في مواجهة مع الجمهور ذي الصلة - إن صح التعبير- والذي قد يجد في هذه الأعمال محفزًا وإشكالية ما. يزداد هذا النقاش أهمية بكون تقديم المعرض في متحف الجامعة وفي فضاء مفتوح أمام الطلبة يوفر مساحة لنقاش فكري حول الهوية والإنتاج الثقافي بعيدًا عن الخطابة والشاعرية الغامرة والمضللة. يقدم المعرض في أشكاله المختلفة، من الأعمال الزيتية والمنسوجات وأعمال الانشاء الثلاثية الأبعاد والمتعددة الوسائط، بالاضافة إلى العمل التفاعلي في الفضاء العام، فرصة غنية ومتنوعة للاطلاع على الإنتاج الفني مباشرة. فمع غياب برنامج فنون أكاديمي في الجامعة، تأتي تجربة المتحف في العمل مع الطلبة، الأساتذة، الفنانين والمؤسسات الثقافية بشكل عام، لتفتح إمكانيات جديدة للتعلم والممارسة الفنية المعاصرة خارج هيكلية التعليم الرسمية، وتقدم أدوات للتفكير من خلال الفن.
ان هذا المعرض، وبهذا الزخم، يقدم فرصة فريدة من نوعها أمام الجمهور عمومًا والطلبة خصوصًا للاقتراب والمشاركة في النقاش الذي يطرحه بشير في أعماله بصرياً و فكرياً، في محاولة للتواصل الدائم مع هويته المتماغطه. تجربة مخول خرجت، أساسًا، من سؤال الهوية الذي يتعمق في مساءلة الأطر المفاهيمية التي أنتجها التاريخ الفلسطيني والمشروع الاستعماري الإسرائيلي وتناقضات ذلك كلّه مع مشروع الحداثة، ويستمر الفنان في جميع أعماله في إيجاد مدخل إلى مفهوم الهوية المركبة، ليشكّل فتيل مواجهة فكرية، والتي تأخذ شكلها الجمالي في العمل الفني المتفرد.